فصل: باب النذر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



البينة بعد التحليف لكان له الأمران معا أعني اليمين وإقامة البينة مع أن الحديث يقتضي أن ليس له إلا أحدهما.
وقد يقال في هذا إن المقصود من الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في هذين الجنسين- أعني البينة واليمين- إلا أم هذا قليل النفع بالنسبة إلى المناظرة وفهم مقاصد الكلام نافع بالنسبة إلى النظر وللأصوليين في أصل هذا الكلام بحث ولم ينبه على هذا حق التنبيه- أعني اعتبار مقاصد الكلام- وبسط القول فيه إلا أحد مشايخ بعض مشايخنا من أهل المغرب وقد ذكره قبله بعض المتوسطين من الأصوليين المالكيين في كتابه في الأصول وهو عندي قاعدة صحيحة نافعة للناظر في نفسه غير أن المناظر الجدلي قد ينازع في المفهوم ويعسر تقريره عليه.
وقد استدل الحنفية بقوله عليه السلام: «شاهداك أو يمينه» على ترك العمل بالشاهد واليمين.
7- عن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه: أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملك».
وفي رواية: «ولعن المؤمن كقتله».
وفي رواية: «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله عز وجل إلا قلة».
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله والرحمن وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما يقول الفقهاء: إذا حلف بالطلاق على كذا ومرادهم تعليق الطلاق به وهذا مجاز وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحنث أو المنع.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله عليه السلام: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام» يحتمل أن يراد به: المعنى الأول ويحتمل أن يراد به المعنى الثاني والأقرب أن المراد الثاني لأجل قوله: «كاذبا متعمدا».
والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة وتارة لا يقع وأما قولنا والله.
وما أشبهه فليس الإخبار بها أمر خارجي وهي للإنشاء أعني إنشاء القسم فتكون صورة هذا اليمين على وجهين.
أحدهما: أن يتعلق بالمستقبل كقوله إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني.
والثاني: أن يتعلق بالماضي مثل أن يقول إن كنت فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني.
فأما الأول- وهو ما يتعلق بالمستقبل- فلا تتعلق به الكفارة عند المالكية والشافعية وأما عند الحنفية ففيها الكفارة وقد يتعلق الأولون بهذا الحديث فإنه لم يذكر كفارة وجعل المرتب على ذلك قوله: «هو كما قال» وأما إن تعلق بالماضي فقد اختلف الحنفية فيه فقيل: إنه لا يكفر اعتبارا بالمستقبل وقيل: يكفر لأنه تنجيز معنى فصار كما إذا قال هو يهودي قال بعضهم: والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل.
المسألة الثانية: قوله عليه السلام: «ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة» هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية.
ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له وإنما هي ملك لله تعالى فلا يتصرف فيها إلا أذن له فيه.
قال القاضي عياض وفيه دليل لمالك ومن قال بقوله على أن القصاص من القاتل بما قتل به محددا كان أو غير محدد خلافا لأبي حنيفة اقتداء بعقاب الله عز وجل لقاتل نفسه في الآخرة ثم ذكر حديث اليهودي وحديث العرنيين.
وهذا الذي أخذه من هذا الحديث في هذه المسألة ضعيف جدا لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله وليس كل ما فعله في الآخرة بمشروع لنا في الدنيا كالتحريق بالنار وإلساع الحيات والعقارب وسقي الحميم المقطع للأمعاء.
وبالجملة: فما لنا طريق إلى إثبات الأحكام إلا نصوص تدل عليها أو قياس على المنصوص عند القياسيين ومن شرط ذلك: أن يكون الأصل المقيس عليه حكما أما ما كان فعلا لله تعالى فلا وهذا ظاهر جدا وليس ما نعتقده فعلا لله تعالى في الدنيا أيضا بالمباح لنا فإن لله أن يفعل ما يشاء بعباده ولا حكم عليه وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أذن لنا فيه بواسطة أو بغير واسطة.
المسألة الثالثة: التصرفات الواقعة قبل الملك للشيء على وجهين.
أحدهما: تصرفات التنجيز كما لوأعتق عبد غيره أو باعه أو نذر نذرا متعلقا به فهذه تصرفات لاغية اتفاقا إلا ما حكي عن بعضهم في العتق خاصة أنه إذا كان موسرا: يعتق عليه وقيل: إنه رجع عنه.
الثاني: التصرفات المتعلقة بالملك كتعلق الطلاق بالنكاح مثلا فهذا مختلف فيه ف الشافعي يلغيه كالأول وملك وأبو حنيفة يعتبرانه وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه ومخالفوه يحملونه على التنجيز أو يقولون بموجب الحديث فإن التنفيذ إنما يقع بعد الملك فالطلاق- مثلا- لم يقع قبل الملك فمن هنا يجيء القول بالموجب.
وههنا نظر دقيق في الفرق بين الطلاق- أعني تعليقه بالملك- وبين النذر في ذلك فتأمله واستبعد قوم تأويل الحديث وما يقاربه بالتنجيز من حيث إنه أمر ظاهر جلي لا تقوم به فائدة يحسن حمل اللفظ عليها وليست جهة هذا الاستبعاد بقوية فإن الأحكام كلها: في الابتداء كانت منتفية وفي أثنائها فائدة متجددة وإنما حصل الشيوع والشهرة لبعضها فيما بعد ذلك وذلك لا ينفي حصول الفائدة عند تأسيس الأحكام.
المسألة الرابعة: قوله عليه السلام: «ولعن المؤمن كقتله» فيه سؤال وهو أن يقال: إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة؟ لا يمكن أن يكون المراد أحكام الدنيا لأن قتله يوجب القصاص ولعنه لا يوجب ذلك وأما أحكام الآخرة فإما أن يراد بها التساوي في الإثم أو العقاب؟ وكلاهما مشكل لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7, 8] وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد فإن الخيرات مصالح والمفاسد شرور.
قال القاضي عياض: قال الإمام- يعني المازري- الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم وهو تشبيه واقع لأن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف قال القاضي وقيل: لعنته تقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين ومنعهم منافعه وتكثير عددهم به كما لو قتله وقيل: لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه وبعده منها بإباحة لعنته فهو كمن قتل في الدنيا وقطعت عنه منافعه فيها وقيل: الظاهر من الحديث: تشبيه في الإثم وكذلك ما حكاه من أن معناه استواؤهما في التحريم.
وأقول هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر أما ما حكاه عن الإمام- من أن معناه استواؤهما في التحريم- فهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم.
والثاني: أن يقع في مقدار الإثم.
فأما الأول: فلا ينبغي أن يحمل عليه لأن كل معصية- قلت أو عظمت- فهي مشابهة أو مستوية مع القتل في أصل التحريم فلا يبقى في الحديث كبير فائدة مع أن المفهوم منه تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل.
وأما الثاني: فقد بينا ما فيه من الإشكال وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وإتلافها وبين الأذى باللعنة.
وأما ما حكاه عن الإمام من قوله: إن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف فالكلام عليه أن نقول: اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله تعالى وهذا الذي يقع فيه التشبيه.
والثاني: أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن وهو طلبه لذلك الإبعاد بقوله لعنة الله مثلا أو بوصفه للشخص بذلك الإبعاد بقوله فلان ملعون وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة فيكون حينئذ تسببا إلى قطع التصرف ويكون نظيره: التسبب إلى القتل غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل بمباشرة الحز وغيره من مقدمات القتل مفض إلى القتل بمطرد العادة فلو كان مباشرة اللعن مفضيا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائما: لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل أو زاد عليه.
وبهذا يتبين لك الإيراد على ما حكاه القاضي من أن لعنته تقتضي قصده إخراجه عن جماعة المسلمين كما لو قتله فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه كما يستلزم مقدمات القتل وكذلك أيضا ما حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة وقد لا تجاب في كثير من الأوقات فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بقتله ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة.
ويحتمل ما حكاه القاضي عن الإمام وغيره أو بعضه أن لا يكون تشبيها في حكم دنيوي ولا أخروي بل يكون تشبيها لأمر وجودي بأمر وجودي كالقطع والقطع- مثلا في بعض ما حكاه- أي قطعه عن الرحمة أو عن المسلمين بقطع حياته وفيه بعد ذلك نظر.
والذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم أنا نقول: لا نسلم أن مفسدة اللعن مجرد أذاه بل فيها- مع ذلك- تعريضه لإجابة الدعاء فيه بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه كما دل عليه الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم, ولا تدعوا على أموالكم, ولا تدعوا على أولادكم لا توافقوا ساعة-» الحديث وإذا عرضه باللعنة لذلك وقعت الإجابة وإبعاده من رحمة الله تعالى كان ذلك أعظم من قتله لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعا والإبعاد من رحمة الله تعالى أعظم ضررا بما لا يحصى وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويا أو مقاربا لأخفهما على سبيل التحقيق ومقادير الفساد والمصالح وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطلاع على حقائقه.

.باب النذر:

1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة- وفي رواية يوما- في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك».
فيه دليل على الوفاء بالنذر المطلق والنذور ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علق على وجود نعمة أو دفع نقمة فوجد ذلك فيلزم الوفاء به.
والثاني: ما علق على شيء لقصد المنع أو الحث كقوله: إن دخلت الدار فلله علي كذا وقد اختلفوا فيه وللشافعي قولان: أنه مخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين وهذا الذي يسمى نذر اللجاج والغضب.
والثالث: ما ينذر من الطاعة من غير تعليق بشيء كقوله لله علي كذا فالمشهور: وجوب الوفاء بذلك وهذا الذي أردناه بقولنا النذر المطلق وأما ما لم يذكر مخرجه كقوله: لله علي نذر هذا هو الذي يقول مالك: إنه يلزم فيه كفارة يمين.
وفيه دليل على أن الاعتكاف قربه تلزم بالنذر وقد تصرف الفقهاء الشافعية فيما يلزم بالنذر من العبادات وليس كل ما هو مثاب عليه لازما بالنذر عندهم فتكون فائدة هذا الحديث من هذا الوجه أن الاعتكاف من القسم الذي يلزم بالنذر.
وفيه دليل عند بعضهم على أن الصوم لا يشترط فيه الاعتكاف لقوله ليلة وهذا مذهب الشافعي ومذهب أبى حنيفة ومالك اشتراط الصوم أول قوله ليلة على اليوم فإن العرب تعبر بالليلة عن اليوم ولاسيما وقد ورد في بعض الروايات يوما.
واستدل به على أن نذر الكافر صحيح وهو قول في مذهب الشافعي والمشهور أنه لا يصح لأن الكافر ليس من أهل التزام القربة ويحتاج على هذا إلى تأويل الحديث ولعله أن قال: أنه أمره بأن يأتي بعبادة تماثل ما التزم في الصورة وهو اعتكاف يوم فأطلق عليها وفاء بالنذر لمشابهتها إياه ولأن المقصود قد حصل وهو الإتيان بهذه العبادة.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل».
مذهب المالكية العمل بظاهر الحديث وهو أن نذر الطاعة مكروه وإن كان لازما إلا أن سياق بعض الأحاديث يقتضي أحد أقسام النذر التي ذكرناها وهو ما يقصد به تحصيل غرض أو دفع مكروه وذلك لقوله: «وإنما يستخرج به من البخيل».
وفي كراهة النذر إشكال على القواعد فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة ولما كان النذر وسيلة إلى الالتزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة إلا أن ظاهر إطلاق الحديث دل على خلافه وإذا حملناه على القسم الذي أشرنا إليه من أقسام النذر كما دل عليه سياق الحديث فذلك المعنى الموجود في ذلك القسم ليس بموجود في النذر المطلق فإن ذلك خرج مخرج طلب العوض وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض وليس هذا المعنى موجودا في التزام العبادة والنذر بها مطلقا.